الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكافي في فقه الإمام أحمد ***
الأصل في القسمة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى: {وإذا حضر القسمة أولو القربى} وأما السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الشفعة فيما لم يقسم] فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وقسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم بين أصحابه وأجمعت الأمة على جوازها والعبرة تقتضيها لحاجة الشركاء ليتخلصوا من سوء المشاركة وكثرة الأيدي وينصرف كل واحد في المال على الكمال على حسب الاختيار.
ويجوز للشركاء أن يقتسموا بأنفسهم وأن ينصبوا قاسما يقسم بينهم وأن يسألوا الحاكم قاسما يقسم بينهم لأن الحق لهم فجاز ما تراضوا عليه ويجب أن يكون القاسم عالما بالقسمة ليوصل إلى كل ذي حق حقه كما يجب أن يكون الحاكم عالما بالحكم ليحكم بالحق فإن كان منصوبا من جهة الحاكم فمن شرطه أن يكون عدلا لأنه نصبه لإلزام الحكم فاشترطت عدالته كالحاكم وإن كان منصوبا من جهتهما لم تشترط عدالته لأنه نائبهما فأشبه الوكيل إلا أنه إن كان عدلا كان القاسم الحاكم في لزوم قسمته لأنه يصير بتراضيهما كالمنصوب من جهة الحاكم وإن لم يكن عدلا لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما كما لو اقتسما بأنفسهما ويجزىء قاسم واحد إن خلت القسمة من تقويم لأنه حكم بينهما فأشبه الحاكم وإن كان فيها تقويم لم يجز أقل من قاسمين لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين.
وعلى الإمام أن يرزق القاسم من بيت المال لأنه من المصالح وقد روي أن عليا رضي الله عنه اتخذ قاسما جعل له رزقا في بيت المال ولأن هذا من المصالح فأشبه رزق الحاكم فإن لم يعط من بيت المال شيئا فأجرته على الشركاء على قدر أملاكهم سواء طلباها معا أو أحدهما لأنها مؤنة تتعلق بالملك فكانت على قدر الأملاك كنفقة العبد وإن كان الشركاء نصبوا قاسما فأجرته بينهم على ما شرطوه لأنه أجيرهم.
وإذا كان في القسمة رد عوض فهي بيع لأن صاحب الرد بذل المال عوضا عما حصل له من حق شريكه وهذا هو البيع وإن لم يكن فيها رد فهي إفراز النصيبين وتميز الحقين وليست بيعا ولذلك جاز تعليقها على القرعة وتقدرت بقدر الحق ودخلها الإجبار ولو كانت بيعا حتما لم يجز ذلك فيها كما في سائر البيوع وحكي عن أبي عبد الله بن بطة: أنها بيع لأن أحدهما يبذل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر وهذا حقيقة البيع والمذهب الأول فيجوز قسمة الثمار على الشجر خرصا وقسمة المكيل وزنا والموزون كيلا والتفرق قبل القبض ولا يحنث بها من حلف أن لا يبيع وإن كان العقار وقفا أو نصفه جازت القسمة وإن قلنا: هي بيع لم يجز شي من ذلك لأن بيعه غير جائز وإن كان فيها رد لم تجز قسمة الوقف لأنه لا يجوز بيع شيء منه وإن كان بعضه طلقا وبعضه وقفا والرد من صاحب الطلق لم يجز لأنه يشتري بعض الوقف وإن كان صاحب الوقف جاز ولأنه يشتري بعض الطلق.
إذا طلب أحد الشريكين القسمة فأبى الآخر من غير ضرر كالحبوب والأدهان والثياب الغليظة والأراضي والدور التي يمكن قسمتها بالتعديل من غير رد عوض ولا ضرر أجبر الممتنع عليها لأن طالبها يطلب إزالة الضرر عنه وعن شريكه من غير ضرر بأحد فوجب إجابته إليه وسواء كانت الأرض متساوية الأجر أو مختلفة بعضها عامر وبعضها خراب أو بعضها ذو بناء أو شجر أو بئر وبعضها بياض أو يسقى بعضها سيحا وبعضها بناضح وإن كان عليهما ضرر في القسمة كالجواهر والثياب التي ينقصها القطع والرحى الواحدة والبئر والحمام الصغير لم يجبر الممتنع لما روى مالك في موطئه عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لا ضرر ولا ضرار] من [المسند] ولأنه إتلاف مال وسفه يستحق به الحجر فلم يجبر عليه كهدم البناء وإن كان على أحدهما ضرر دون الآخر كدار لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها يستضر صاحب الثلث بالقسمة دون شركائه فطلبها المستضر ففيه وجهان: أحدهما: يجبر الممتنع لأنه مطالب بقسمة لا ضرر عليه فيها فلزمته الإجابة كالتي قبلها. والثاني: لا يجبر لأن طلب المستضر سفه فلم تلزم إجابته كما لو استضرا معا وإن طلبها غير المستضر فقال أبو الخطاب: لا يجبر الممتنع وهذا ظاهر كلام أحمد لأنه قال: كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم [لا ضرر ولا ضرار] ولأنها قسمة تضره فلم يجبر عليها كما لو استضر وقال القاضي: يجبر لأنه يطالب بحق ينفع الطالب فوجبت إجابته كقضاء الدين وفي الضرر المانع روايتان: إحداهما: هو أن لا يتمكن أحدهما من الانتفاع بنصيبه مفردا كالدار الصغيرة التي لا يمكن سكنى نصيب أحدهما منفردا وهذا قول الخرقي لأن ضرر نقص القيمة ينجبر بزوال ضرر الشركة فيصير كالمعدوم. والثانية: هو أن تنقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة لأنه ضرر فمنع وجوب القسمة للخبر والقياس الأول.
وإن كان بينهما أرض مختلفة الأجزاء وأمكنت التسوية بأن يكون الجيد في مقدمها والرديء في مؤخرها فيقسمانها نصفين؟ فيحصل في كل قسم من الجيد والرديء مثل ما في الآخر قسم كذلك وإن لم يمكن لكون الجيد في أحد النصفين وأمكن التعديل بجعل ثلثيها في المساحة في مقابلة ثلثها الجيد أجبر الممتنع لأنه يوجب التساوي بالتعديل من غير رد فأشبه ما لو تساويا في الذرع وأجرة القاسم بينهما سواء لتساويهما في أصل الملك ويحتمل أن يجب على صاحب الثلث ثلثها وعلى الآخر ثلثاها لتفاضلهما بالمأخوذ بالقسمة فإن أمكن القسمة بالتعديل والرد فدعي كل واحد منهما إلى أحدهما أجيب من طلب قسمة التعديل لأن ذلك مستحق ولا يلزم إجابة الآخر لأنه بيع فلا يجبر عليه غيره.
وإن كان بينهما دور أو أرض مختلفة في بعضها نخل وفي بعضها شجر وبعضها يسقى سيحا وبعضها يسقى بالنواضح فطلب أحدهما قسمتها أعيانا بالقيمة وطلب الآخر قسمة كل عين على حدة قسمت كل عين على حدة لأن لكل واحد منهما حقا في الجميع فجاز له طلبه من الجميع وإن كانت بينهما عضائد متلاصقة فطلب أحدهما قسمتها أعيانا وطلب الآخر قسمة كل واحدة منهما لم يجبر واحد منهما لأن كل واحدة مسكن منفرد في قسمته ضرر وإن كانت كبارا يمكن قسمتها بغير ضرر قسمت كل واحدة على حدتها كالدور المتفرقة. وإن كانت بينهما دار لها علو وسفل فطلب أحدهما أن يجعل العلو لأحدهما والسفل للآخر فأبى الآخر لم يجبر لأن العلو تابع للعرصة فلا يجوز جعله في القسمة متبوعا وإن طلب قسمة السفل وحده أو العلو وحده لم تجب إجابته لأن القسمة تراد للتمييز ومع بقاء الإشاعة في أحدهما لا يحصل التمييز وإن طلب قسمة السفل منفردا والعلو منفردا لم تجب إجابته لأنه قد يحصل لكل واحد منهما علو سفل الآخر أو بعضه فلا يتميز الحقان وإن طلب قسمتهما معا وكانت لا تضر أجبر الممتنع لما تقدم.
وإن كان بين ملكيهما عرصة حائط فطلب أحدهما قسمتها طولا ليحصل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض فقال أصحابنا: يجبر الممتنع لأنه لا ضرر ويحتمل أن لا يجبر لأنه يفضي إلى بقاء ملكه الذي يلي نصيب صاحبه بغير حائط وإن طلب قسمتها عرضا ليحصل لكل واحد نصف العرض في كمال الطول وكان يحصل لكل واحد منهما ما لا يمكن أن يبنى فيه حائط لم يجبر الممتنع لأنه يتضرر وإن حصل له ما يمكنه بناء حائط فيه أجبر الممتنع لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد منهما الانتفاع به مقسوما ويحتمل أن لا يجبر لأنه لا تدخله القرعة خوفا من أن يحصل لكل واحد منهما ما يلي ملك الآخر وإن كان بينهما حائط فطلب أحدهما قسمته طولا في كمال العرض ففيه وجهان: أحدهما: تجب إجابته لما ذكرنا فر العرصة. والثاني: لا تجب لأنه إن قطع الحائط ففيه إتلاف وإن لم يقطع أفضى إلى الضرر لأن في تجميل أحدهما له ثقلا على نصيب صاحبه وإن طلب قسمته عرضا في كمال الطول لم يجبر الممتنع لأن فيه إفسادا وفي جميع ذلك متى اتفقا على القسمة جاز.
وإن كان بينهما أرض مزروعة فطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع لزم إجابته لأن الزرع لم يمنع جواز القسمة فلم يمنع وجوبها كالقماش في الدار فإذا قسماها بقي الزرع بينهما مبقى إلى الحصاد ذكره أصحابنا والأولى أنها لا تجب لأنه يلزم منها إبقاء الزرع المشترك في الأرض المقسومة إلى الحصاد بخلاف القماش كما لو بيعت الأرض وإن طلب قسمة الزرع منفردا لم يلزم إجابته لأنه لا يمكن تعديله ويشترط بقاؤه في الأرض المشتركة وإن طلب قسمة الأرض مع الزرع وكان قصيلا لزمته إجابته لأن الزرع كالشجر في الأرض فلم يمنع الإجبار وإن كان سنابل مشتدا حبها فكذلك إلا عند من جعل له القسمة بيعا فلا يجوز لأنه يبيع بعضه ببعض من غير كيل وإن كان بذرا لم تجز قسمته لأنه مجهول لا يمكن تعديله فيكون قسمة مجهول ومعلوم ويحتمل الجواز لأنه بيع لا يمنع البيع إذا اشترطه المبتاع فكذلك لا يمنع القسمة.
إذا كان بينهما ثياب أو حيوانات أو خشب أو عمد أو أحجار متفاضلة فطلب أحدهما قسمتها أعيانا بالقيمة لم تجب إجابته لأن ذلك بيع وإن كانت متماثلة فقال القاضي: تجب إجابته لأنها متماثلة أشبهت أجزاء الأرض المتماثلة ويحتمل أن لا يلزم إجابته لأنها أعيان متفرقة فأشبهت العضائد والدور المتفرقة.
إذا كانت بينهما عين فأرادا قسمة منافعها بالمهايأة بأن تجعل في يد أحدهما مدة وفي يد الآخر مثلها جاز لأن المنافع كالأعيان فجازت قسمتها وإن امتنع أحدهما لم يجبر لأن حق كل واحد منهما معجل فلم يجبر على تأخيره بالمهايأة فإن تهايآه اختص كل واحد منهما بمنفعته في مدته وكسبه وفي الأكساب النادرة كاللقطة والهبة والركاز وجهان: أحدهما: يدخل فيها لأنها كسب أشبه المعتاد. والثاني: لا يدخل لأن المهايأة كالبيع فلا يدخل فيها إلا ما يقدر عليه في العادة والنادر لا يقدر عليه عادة فلا يدخل فيها ويكون بينهما ونفقة الحيوان في مدة كل واحد منهما عليه لأن نفعه له فكانت مؤنته عليه كالمنفرد به.
وصفة القسمة أن يحصي القاسم عدد أهل (السهمان) ثم يعدل السهمان بالأجزاء أو بالقيمة أو بالرد وأن كانت تقتضيه ثم لا يخلو من حالين: أحدهما: أن تتساوى سهمانهم كأرض بين ستة لكل واحد سدسها فهذا بخير فيه بين إخراج الأسماء على السهام بأن يكتب اسم كل واحد في رقعة ويدرجها في بنادق شمع متساوية ويطرح عليها ثوبا ويقال لمن لم يحضر ذلك: أدخل يدك فأخرج بندقة على هذا السهم الأول فمن خرج اسمه فهو له: ثم على الثاني والثالث والرابع والخامس ويتعين السهم السادس للسادس وبين إخراج السهام على الأسماء بأن يكتب في رقعة السهم الأول وفي أخرى الثاني حتى يستوفي جميع السهام ثم يأمر بإخراج بندقة على اسم أحد الشركاء فما خرج فهو له كذلك إلى آخرها. الحال الثاني: أن تختلف سهمانهم مثل أن يكون لأحدهم نصفها ولآخر ثلثها ولآخر سدسها فإنه يعدل السهام بعدد أقلها ويجعلها ستة ويخرج الأسماء على السهام لا غير فيخرج بندقة على السهم الأول فإن خرج اسم صاحب النصف أخذه والثاني والثالث ثم يخرج بندقة على السهم الرابع فإن خرجت لصاحب الثلث أخذه والخامس ويتعين السادس لصاحب السدس وإنما قلنا: يأخذه والذي يليه ليجتمع حقه ولا يتضرر بتفرقته ولا يخرج في هذا القسم السهام على الأسماء لئلا يخرج السهم الرابع لصاحب النصف فيقول: خذه وسهمين قبله فيقول صاحباه: يأخذه وسهمين بعده فيختلفان ولأنه لو خرج لصاحب السدس السهم الثاني ثم خرج لصاحب النصف السهم الأول لتفرق نصيبه.
وإذا قسم بينهما قاسم الحاكم قسمة إجبار فأقرع بينهما لزمت قسمته بغير رضاهما لأن رضاهما لا يتعين في ابتداء القسمة فلا يتعين في أثنائها وإن نصبا عدلا عالما يقسم بينهما لزمتهما قسمته بالقرعة لأن الحاكم الذي ينصبانه كحاكم الإمام في لزوم حكمه فقاسمهما كقاسم الإمام في لزوم قسمته وإن كان فاسقا أو جاهلا بالقسمة أو قسما بأنفسهما لم يلزم إلا بتراضيهما لأن رضاهما معتبر في الأول ولم يوجد ما يزيله فوجب استمراره وإن كان في القسمة رد فتولاها قاسم الحاكم ففيها وجهان: أحدهما: لا يلزم إلا بالتراضي كذلك ولأنها بيع فلا يلزم بغير التراضي كسائر البيع. والثاني: يلزم بالقرعة لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمه وإن راضيا على أن يأخذ كل واحد منهما سهما بغير قرعة أو خير أحدهما صاحبه فاختار أحد السهمين جاز ويلزم بتراضيهما وتفرقهما كالبيع.
وإن ادعى أحدهما غلطا في قسمة الإجبار لم يقبل إلا ببينة لأن القاسم كالحاكم فلم تقبل دعوى الغلط عليه بغير بينة كالحاكم فإن أقام البينة نقصت القسمة وإن لم يكن له بينة وطلب يمين شريكه أحلف له وإن ادعى الغلط في قسمة لا تلزم إلا بتراضيهما لم تسمع دعواه لأنه رضي بذلك ورضاه بالزيادة في نصيب شريكه تلزمه.
وإن ظهر بعض نصيب أحدهما مستحقا بطلت القسمة لأنه بقي له حق في نصيب شريكه فعادت الإشاعة وإن كان المستحق في نصيبهما على السواء وكان معينا لم تبطل القسمة لأن الباقي مع كل واحد قدر حقه ويحتمل أن تبطل القسمة لأنه لم يتعين الباقي لكل واحد منهما في مقابلة ما بقي للآخر وإن كان مشاعا بطلت القسمة لأن الثالث شريكهما لم يأذن في القسمة ولم يحضر فأشبه ما لو علما به وإن قسما أرضا نصفين وبنى أحدهما في نصيبه دارا ثم استحق ما في يده ونقض بناؤه رجع على شريكه بنصف البناء لأن القسمة كالبيع ولو باعه نصف الدار رجع عليه بنصف ما غرم كذا ها هنا.
إذا اقتسم الوارثان فظهر على الميت دين متعلق بالتركة انبنى ذلك على أن الدين هل يمنع تصرف الورثة في التركة؟ وفيه وجهان: أحدهما: يمنع؟ فلا تصح القسمة. والثاني: لا يمنع فتكون القسمة صحيحة هذه هي المذهب لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع صحة التصرف فيها لكن إن امتنعا من وفاء الدين بيعت في الدين وبطلت القسمة هذا هو المذهب وإن وفى أحدهما دون الآخر صح في نصيب من وفى وبطل في نصيب الآخر.
وإذا سأل أحد الشريكين الحاكم القسمة بينه وبين شريكه فيما تدخله قسمة الإجبار لم يجبه إلى ذلك حتى يثبت عنده ملكها لأن في قسمة الإجبار حكما عليه فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك وإن سأله الشريكان القسمة أجابهما إليها ولم يحتج إلى إثبات الملك لأن يدهما دليل ملكهما ولا منازع لهما فيثبت لهما من حيث الظاهر ولكنه يثبت في القضية أن قسمه إياه بينهما بإقرارهما لا ببينة شهدت لهما بملكهما وكل ذي حجة على حجته لئلا يتخذ القسمة حجة على من ينازعه في الملك.
لا تصح دعوى المجهول في غير الوصية والإقرار لأن القصد في الحكم فصل الخصومة والتزام الحق ولا يمكن ذلك في المجهول فإن كان المدعى دينا ذكر الجنس والنوع والصفة وإن كان عينا باقية ذكر صفتها وإن ذكر قيمتها كان أحوط وإن كانت تالفة لها مثل ذكر صفتها وإن ذكر القيمة كان أحوط وإن لم يكن لها مثل ذكر قيمتها وإن كان سيفا محلى بذهب أو فضة قومه بغير جنس حليته وإن كان محلى بهما قومه بما شاء منهما للحاجة وإن ادعى حقا من وصية أو إقرار جاز أن يدعي مجهولا لأنهما يصحان بالمجهول وإذا ادعى مالا لم يحتج إلى ذكر سببه الذي ملك به لأن أسبابه كثيرة فيشق معرفة كل درهم منه.
وإن ادعى عقد نكاح لزم ذكر شروطه فيقول: تزوجتها بولي مرشد وشاهدي عدل وإذنها إن كان إذنها معتبرا لأنه مبني على الاحتياط وتتعلق العقوبة بجنسه فاشترط ذكر شروطه كالقتل وإن ادعى استدامة النكاح ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه ذكر الشروط لأنه يثبت بالاستفاضة التي لا يعلم معها اجتماع الشروط. والثاني: يلزم لأنها دعوى في النكاح أشبه العقد وإن ادعى عقدا يستحق به المال كالبيع والإجارة لم يحتج إلى ذكر شروطه لأن مقصوده المال أشبه دعوى العين ويحتمل أن يفتقر إلى ذلك لأنه عقد فأشبه النكاح وإن ادعى قصاصا في نفس أو طرف فلا بد من ذكر صفة الجناية وأنها عمد منفردا بها أو مشاركا فيها ويذكر صفة العمد لأنه قد يعتقد ما ليس بعمد عمدا والقتل مما لا يمكن تلافيه فلا يؤمن أن يقتص ممن لا يجب القصاص فيه وهو ما لا يمكن تلافيه فوجب الاحتياط فيه.
وما لزم ذكره في الدعوى فلم يذكره سأله الحاكم عنه ليذكره فتصير الدعوى معلومة فيمكن الحكم بها والله أعلم.
وإذا ادعت المرأة النكاح على رجل وذكرت معه حقا من حقوق النكاح سمعت دعواها لأن حاصل دعواها دعوى الحق من المهر والنفقة ونحوهما وذكر النكاح لبيان السبب وإن لم تذكر معه حقا فذكر القاضي: أن دعواها تسمع أيضا لأن النكاح يتضمن حقوقا فصح دعواها له كالبيع وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر أن دعواها لا تسمع لأنه حق عليها فدعواها له إقرار ولا يسمع مع إنكار المقر له.
وإذا ادعى مالا مضافا إلى سببه فقال: أقرضته ألفا أو أتلف علي ألفا فقال: ما أقرضني وما أتلفت عليه صح الجواب لأنه نفى ما ادعى عليه وإن قال: لا يستحق علي شيئا ولم يتعرف لما ذكر المدعي صح الجواب أيضا لأنه إذا لم يستحق عليه شيئا برىء منه.
وإذا ادعى على رجل عينا في يده أو دينا في ذمته فأ نكره ولا بينه له فالقول قول المنكر مع يمينه لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه] رواه البخاري ومسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الحضرمي والكندي: [شاهداك أو يمينه] ولأن الأصل براءة ذمته من الدين والظاهر من اليد الملك وإذا تداعيا عينا في أيديهما ولا بينة حلفا وجعلت بينهما نصفين لما روى أبو موسى الأشعري: أذ رجلين تداعيا دابة ليس لأحدهما بينة فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم رواه مسلم. ولأن يد كل واحد منهما على نصفها فكان القول قوله فيه كما لو كانت العين في يد أحدهما. وإن تداعيا عينا في يد غيرهما ولا بينة لواحد منهما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنها له وسلمت إليه لما روى أبو هريرة أن رجلين تداعيا عينا لم يكن لواحد منهما بينة فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها رواه أبو داود ولأنهما تساويا ولا بينة لهما فيقرع بينهما كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما وإن كانت للمدعي أو لأحد المتداعيين بينة حكم له بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الحضرمي: [ألك بينة؟] قال: لا قال: [فلك يمينه] ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها فكانت أولى من اليمين التي يتهم فيها.
وإن ادعيا عينا في يد غيرهما فأقام كل واحد منهما بينة ففيها ثلاث روايات إحداهن تقدم بينة المدعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [البينة على من ادعى واليمين على من أنكر] فجعل البينة للمدعي ولأن بينة المدعي أكثر فائدة لأنها تثبت شيئا لم يكن وبينة المنكر إنما تثبت ظاهرا دلت اليد عليه فلم تفد ولأنه يجوز أن يكون مستند البينة المنكر رؤية التصرف ومشاهدة اليد فأشبهت اليد المفردة. والثانية: تقدم بينة المنكر لأنهما تعارضتا ومع صاحب اليد ترجيح بها فقدمت كالنصين إذا تعارضا والقياس مع أحدهما. والثالثة: إن شهدت بينة المدعى عليه بالسبب من نتاج أو نسج أو قطيعة أو كانت أقدم تاريخا قدمت وإلا فلا لما روى جابر أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة أو بعير فأقام كل واحد منهما البينة أنها له أنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده ولأنها إذا شهدت بالسبب أفادت ما لا تفيد اليد وترجحت باليد فوجب ترجيحها وكل من قضي له ببينة لم يستحلف معها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك] ولأن اليمين تكفي وحدها في حق من شرعت في حقه فالبينة أولى لأنها أقوى وسواء كان الخصم ممن يعبر عن نفسه كالمكلف أو ممن لا يعبر عن نفسه كغيره لما ذكرنا.
فإن ادعى الخارج أن الدابة ملكه أودعها إياه أو أجره إياها وأنكر الآخر وأقاما بينتين فبينة الخارج أولى وقال القاضي بينة الداخل أولى لأنه الخارج في المعنى ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم [: البينة على المدعي] ولأن اليمين على الداخل فكانت بينة الخارج مقدمة كما لو لم يدع الوديعة.
وإن تداعيا عينا في يديهما وأقام كل واحد منهما بينة أنها ملكه تعارضتا وقسمت العين بينهما نصفين ء لما روى أبو موسى: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين رواه أبو داود ولأن بينة الداخل أو الخارج مقدمة فكل واحد خارج في نصفها داخل في نصفها الآخر فقدمت بينته في أحد النصفين وهل يلزم اليمين كل واحد منهما في النصف المحكوم له به؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يلزم لما ذكرنا. والثانية: تجب اليمين لأن البينتين تساوتا فتساقطتا فصارا كمن لا بينة لهما. وذكر أبو الخطاب رواية أخرى: أنه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها لأنهما لما تساويا وجب المصير إلى القرعة كالعبيد في العتق والأول أولى للخبر والمعنى.
وإن تداعيا عينا في يد غيرهما فاعترف أنه لا يملكها وأقام كل واحد منهما البينة أنها له ففيه ثلاث روايات: إحداهن: تسقط البينتان ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنها له وسلمت إليه لأنهما تساويا من غير ترجيح بيد ولا غيرها فوجب أن يسقطا كالنصين ويصار إلى القرعة كالعبيد إذا تساووا وقد روى الشافعي حديثا رفعه إلى ابن المسيب أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أمر وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما. والثانية: تقسم العين بينهما لحديث أبي موسى لأنهما تساويا في الدعوى والبينة واليد فوجب أن تقسم العين بينهما كما لو كانت في أيديهما. والثالثة: يقرع بينهما فمن قرع صاحبه أخذها بغير يمين لأن القرعة أوجبت العمل بإحدى البينتين ولا حاجة إلى اليمين مع البينة.
وإذا ادعى عينا في يد إنسان فأقر بها لغيره وصدقه المقر له حكم له لأنه مصدق فيما بيده وقد صدقه المقر له فصار كصاحب اليد وتنتقل الخصومة إليه وعلى المقر اليمين لأنه لا يعلم أنها للمدعي لأنه لو أقر بها له لزمه غرمها ومن لزمه الغرم مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار فإن نكل عنها مع طلبها منه قضي عليه بالغرم وإن أكذبه المقر له وقال: ليست لي وكان للمدعي بينة حكم له. وإن لم يكن له بينة ففيه وجهان: أحدهما: تدفع إليه لأنه يدعيها ولا منازع له فيها أشبه التي في يده ولأن صاحب اليد لو ادعاها ثم نكل قضي عليه فمع عدم ادعائه لها أولى. والثاني: لا تدفع إليه لأنه ليس له إلا مجرد الدعوى فلا يحكم بها كما لو أنكره الآخر فعلى هذا يأخذها الإمام يحفظها حتى يظهر صاحبها لأنه لم يثبت لها مستحق فهي كالضالة ويحتمل أن تقر في يد المقر لأنه لم يثبت صحة إقراره فإن أقر المقر له بها للمدعي سلمت إليه لأنه قام مقام صاحب اليد لو ادعاها فقام مقامه في الإقرار بها. وإن أقر بها صاحب اليد لغائب معين صار الغائب الخصم فيها فإن أقام المقر بينة أنها للغائب سمعها الحاكم لإزالة التهمة وإسقاط اليمين عنه ولم يحكم بها للغائب لأنه إنما يقضى بها إذا أقامها المدعي أو وكيله وليس المدعي واحدا منهما ومتى لم يكن للمدعي بينة لم يقض له بها لأنه لا يقضى على الغائب بغير حجة فإن أقام بينة سمعها الحاكم وقضى بها والغائب على خصومته متى حضر فإذا حضر فأقام بينة أنها ملكه تعارفت البينتان وأقرت في يد المدعي إن قلنا: إن بينة الخارج مقدمة لأنه خارج وإن قلنا: تقدم بينة الداخل فهي للغائب لأنه صاحب اليد وإن ادعى الحاضر أنها معه بأجرة أو عارية وأقام بينة لم يقض له بها لأن ثبوت الإجارة والعارية يترتب على الملك ولا يثبت الملك بها فكذلك فرعها وإن أقر الحاضر بها لمجهول لم تسمع وقيل: إن أقررت بها لمعروف وإلا جعلناك ناكلا وقضينا عليك له فإن أصر قضي عليه بنكوله فإن قال بعد ذلك: هي لي لم يقبل في أحد الوجهين لأنه اعترف أنها ليست له. والثاني: تسمع لأن قوله ذلك لم يصح فلم يمنع صحة الدعوى لنفسه.
وإن ادعى أن هذه العين كانت ملكه لم تسمع دعواه حتى يدعي ملكها في الحال لأن الخلاف في ملكه لها في الحال وإن ادعى ملكها في الحال فشهدت بينته أنها كانت ملكه أمس أو أنها كانت في يده أمس لم تسمع لأنها شهدت بغير ما ادعاه ويحتمل أن تسمع ويقضى بها لأنها تثبت الملك في الزمن الماضي فيجب استدامته حتى يعلم زواله فإن انضم إليها بيان سبب يد الثاني فقالت: نشهد أنها ملك هذا أمس فغصبها هذا منه أو سقطت فالتقطها هذا حكم له بها لأنه تثبت أن يد الثاني عدوان ليست دليلا للملك فيجب القضاء باستدامة الملك الماضي وإن ادعى. جارية أو ثمرة فشهدت بينة أن الجارية بنت أمته والثمرة ثمرة شجرته لم يحكم له بها لأنه يجوز أن تلدها أو تثمرها قبل ملكه فإن قالت مع ذلك: ولدتها في ملكها وأثمرتها في ملكه حكم له بها لأنها شهدت أنها نماء ملكه فصار كما لو شهدت أن الغزل من قطنه وإن شهدت بينة أن الغزل من قطنه أو الطير من بيضته أو الدقيق من حنطته حكم له بها لأن الجميع عين ماله وإنما تغيرت صفته.
وإن كانت في يد زيد دار فادعى آخر أنه ابتاعها من غيره وهي ملكه فأقام على ذلك بينة حكم له بها لأنه ابتاعها من مالكها وإن شهدت أنه باعه إياها وسلمها إليه حكم له بها لأنه لم يسلمها إليه إلا وهي في يده وإن لم يذكر الملك ولا التسليم لم يحكم بها لأنه لا يمكن أن يبيعه ما لا يملكه فلا تزال يد صاحب اليد وإن ادعاها رجلان فشهد لأحدهما رجلان أن صاحب اليد غصبه إياها وشهد للآخر شاهدان أن صاحب اليد أقر له بها حكم للمغصوب منه لأنه ثبت أن صاحب اليد غاصب وإقرار الغاصب غير مقبول.
وإذا تداعى رجلان دارا ذكر كل واحد منهما أنه ابتاعها من زيد ونقده ثمنها أو ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد وهي ملكه وادعى آخر أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه ولكل واحد منهما بينة بدعواه واختلف تاريخهما فهي للأول لأنه ابتاعها من مالكها وإن استوى تاريخهما أو أطلقتا أو أطلقت إحداهما وأرخت الأخرى تعارضتا فإن كانت الدار في يد أحدهما ابتنى على بينة الداخل والخارج وإن كانت في يد غيرهما فادعاها لنفسه وقلنا: تسقط البينتان حلف لكل واحد منهما يمينا وأخذها وإن قلنا: يستعملان بأن يقرع بينهما قرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها وإن قلنا: تقسم بينهما فلكل واحد منهما نصفها بنصف الثمن وقد نص أحمد رحمه الله في رواية الكوسج في رجل أقام البينة أنه اشترى سلعة بمائة فأقام الآخر بينة أنه اشتراها بمائتين فكل واحد منهما يستحق نصف السلعة بنصف الثمن فيكونان شريكين فإن لم يدعها صاحب اليد فإن قلنا: تسقط البينتان رجع إليه فإن أقر بها لأحدهما سلمت إليه ويحلف كل واحد منهما للذي أنكره وإن أقر بها لهما قسمت بينهما ويحلف لكل واحد منهما يمينا ويحلف كل واحد منهما لصاحبه على النصف المحكوم له به وإن قلنا: تستعمل البينتان لم يفد إقراره شيئا لأنه قد ثبت زوال ملكه وأن يده لا حكم لها فصار كالأجنبي ولو كان في يده عبد فادعى رجل أنه اشتراه منه وادعى العبد أنه أعتقه وأقاما بينتين فالحكم على ما مضى من التفصيل ومتى قلنا: تقسم العين بينهما عتق نصف العبد وللآخر نصفه بنصف الثمن.
فإن كان في يده دار فادعى رجل أنه باعه إياها بمائة في رمضان وأنه يستحق ثمنها عليه وادعى آخر أنه باعه إياها في شوال وأنه استحق عليه ثمنها ولا بينة لهما فأنكرهما حلف لكل واحد منهما يمينا وبرىء وإن أقاما بينتين بدعواهما لزمه اليمين لكل واحد منهما لأنه يمكن أن يشتريها من الأول في رمضان ثم تصير للثاني فيبيعها الآخر في شوال وإن اتفق تاريخهما تعارضتا فإن قلنا: بسقوطهما صارا كمن لا بينة لهما وإن قلنا: يستعملان قسم الثمن بينهما على رواية ويقدم أحدهما بالقرعة رواية أخرى وإن أطلقتا أو أطلقت إحداهما وأرخت الأخرى لزمه الثمنان لهما لأنه أمكن صدق البينتين بأن يكونا في زمنين فوجب تصديقهما كالمختلفي التاريخ ويحتمل تعارضهما لاحتمال استواء تاريخهما والأصل براءة الذمة والأول أولى.
إذا قال لعبده: إن قتلت فأنت حر فادعى العبد أنه قتل وادعى الوارث أنه مات ولا بينة لهما فالقول قول الوارث مع يمينه وإن أقام كل واحد منهما بينة ففيه وجهان: أحدهما: يتعارضان ويبقى العبد رقيقا لأن كل واحدة منهما تثبت ما شهدت به وتنفي ما شهدت به الأخرى فهما سواء. والثاني: تقدم بينة العبد لأنها تثبت القتل وهو: صفة زائدة على الموت فقد تضمنت زيادة أثبتتها وقول المثبت مقدم وإن قال لأحد العبدين: إن مت في رمضان فأنت حر وقال للآخر: إن مت في شوال فأنت حر ولا بينة لهما فأنكرهما الوارث فالقول قوله مع يمينه لأنه يحتمل موته في غيرهما والأصل بقاء الرق وإن اعترف لهما فالقول قول من يدعي موته في شوال لأن الأصل بقاء الحياة وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه ففيه وجهان: أحدهما: يتعارضان لأن موته في أحد الزمانين ينفي موته في الآخر فيبقى العبدان على الرق ذكره أصحابنا وقياس المذهب أن يقرع بينهما ويعتق أحدهما لأنا علمنا حرية أحدهما لا بعينه. والوجه الثاني: تقدم بينة رمضان لأنه يحتمل أنه خفي موته في رمضان على البينة الأخرى وعلمته الأولى وإن قال العبد: إن مت من مرضي هذا فأنت حر وقال لآخر: إن برئت فأنت حر ولا بينة لهما فالقول قول الأول لأن الأصل عدم البرء وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه تعارضتا والحكم فيها كالتي قبلها لأن كل واحدة منهما تنفي ما أثبتته الأخرى ويحتمل تقديم بينة البرء ولأنه يجوز أن تعلمه إحداهما وتخفى على الأخرى.
وإذا كان في يد رجل عين فادعاها نفسان وعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما فيها كالإرث والشراء في صفقة واحدة فأقر لأحدهما بنصفها شاركه الآخر فيه لأن دعواهما تقتضي اشتراكهما في كل جزء منها وكذلك لو كان طعاما فهلك بعضه كان باقيه بينهما أن يكون المجحود والمقر به بينهما وإن لم يعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي الاشتراك فأقر لأحدهما بنصفها لم يشاركه الآخر لأن دعواه لا تقتضي الاشتراك في كل جزء وإن أقر له بجميعها وكان المقر له قد أقر لشريكه في الدعوى بنصفها لزمه دفعه إليه لأنه أقر له به فإذا وصل إليه لزمه حكم إقراره وإن لم يكن أقر له وادعى جميعها حكم له به وانتقلت الخصومة في النصف إليه لأنه يجوز أن يكون الجميع له ويخص النصف بالدعوى لأن له عليه بينة أو يظن أنه يقر له به ومن يملك الجميع فهو يملك النصف فإن قال: النصف لي والباقي لا أعلم صاحبه أعطي النصف الذي ادعاه وفي النصف الباقي ثلاثة أوجه تقدم ذكرها فيمن ادعى عينا في يد رجل فأقر بها لغيره وكذبه المقر له.
فإن كان في أيديهما دار ادعى أحدهما نصفها وادعاها الآخر كلها ولا بينة لهما فهي بينهما نصفين وعلى مدعي النصف اليمين لصاحبه لأن يده على نصفها فالقول قوله فيه مع يمينه ولا منازع لصاحبه في نصفها الآخر وهو في يده فإن أقام كل واحد منهما بينة تعارضتا وأيهما يقدم؟ ينبني على الخلاف في تقديم بينة المدعي والمنكر وظاهر المذهب تقديم بينة المدعي فتكون الدار كلها لمدعي الكل وإن كانت الدار في يد ثالث لا يدعيها فلصاحب الكل نصفها الذي لا ينازع فيه فإن لم يكن لهما بينة أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذ النصف الآخر وإن كان لأحدهما بينة حكم بها وإن كانت لكل واحد منهما بينة تعارضتا وسقطتا وصارا كمن لا بينة لهما يقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذ النصف وعنه: تقسم بينهما فيصير لمدعي الكل ثلاثة أرباعها على ما مضى فيمن تداعيا عينا في يد غيرهما.
ولو ادعى إنسان أن أباه مات وخلفه وأخا له غائبا أو صغيرا أو مجنونا وخلف عينا لهما في يد إنسان فأنكر المدعى عليه فأقام المدعي بينة بدعواه ثبتت العين للميت وانتزعت من يد المنكر ودفع نصفها إلى المدعي وحفظ الحاكم نصيب الغائب له ولو ادعى الدار له ولأجنبي لم ينزع الحاكم نصيب الأجنبي من المنكر لأن الشريك ينوب عن نفسه وها هنا يثبت الحق للميت فتقضى ديونه منه وتنفذ وصاياه ولأن الأخ ها هنا يشارك أخاه فيما أخذه إذا تعذر عليه أخذ الباقي بخلاف الأجنبي وإن كان المدعى دينا في ذمة إنسان فهل يقبض الحاكم نصيب أخي المدعي؟ فيه وجهان: أحدهما: يقبضه لأنه أنفع لصاحبه إذ قد تتعذر البينة عليه عند قدومه أو يعزل الحاكم فوجب أن يقبضه كالعين. والثاني: لا يقبضه لأن الذمة أحوط له من يد الأمين لأنه قد يتلف إذا قبضه.
إذا مات رجل وخلف ولدين مسلما وكافرا فادعى كل واحد منهما أن أباه مات على دينه ليرثه دون أخيه فإن علم أصل دينه فالقول قول من يبقيه عليه مع يمينه لأنه الأصل فلا يزال بالشك وإن لم يعرف أصل دينه فقال الخرقي: القول قول الكافر لأنه لو كان مسلما أصليا لم يقر ولده على الكفر في دار الإسلام فيكون ذلك دليلا على أنه كان كافرا قال ابن أبي موسى: وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى: أن الميراث بينهما نصفين فإن أقام كل واحد منهما بينة أن أباه مات على دينه فقال الخرقي وابن أبي موسى: يكونان كمن لا بينة لهما وقد ذكرنا أن البينتين إذا تعارضتا قدم أحدهما بالقرعة في وجه وتقسم العين بينهما في وجه ويحتمل أن تقدم بينة المسلم ها هنا لأنه يجوز أن تكون اطلعت على أمر خفي على البينة الأخرى وإن قالت إحدى البينتين: نعرفه مسلما وقالت الأخرى: نعرفه كافرا واختلف تاريخهما عمل بالآخرة منهما لأنه ثبت بها أنه انتقل عما شهدت به الأولى وإن اتفق تاريخهما تعارضتا وإن أطلقتا أو أطلقت إحداهما قامت بينة المسلم لأن الإسلام يطرأ على الكفر وذكر القاضي أن قياس المذهب فيهما إذا لم يكن لهما بينة مثل ما إذا تداعيا عينا وإن كانت التركة في أيديهما تحالفا وكانت بينهما وإن كانت في يد غيرهما أقرع بينهما والأول أولى لأن صاحب اليد معترف أن هذه تركة للميت فلا تدل يده على الملك وإن ادعى كل واحد منهما أن هذه التركة لي ورثتها عن أبي ولم يعترف. أحدهما بأخوة الآخر فهي كما قال القاضي سواء ذكرا أبا واحدا أو أبوين وإن خلف ابنا مسلما أو أخا كافرا فاختلف في دينه عند موته فالحكم على ما ذكرناه وإن خلف أبوين وابنين فادعى الأبوان أنه مات على دينهما وادعى الابنان أنه مات على دينهما فذلك بمنزلة معرفة أصل دينه لأن الولد قبل بلوغه محكوم له بدين أبويه فيكون القول قولهما ما لم تقم بينة بخلافه.
وإن خلف ابنين كان أحدهما عبدا فادعى أنه عتق قبل موت أبيه وأنكره أخوه فالقول قول المنكر لأن الأصل عدم العتق فإن اتفقا على أنه عتق في رمضان واختلفا في وقت موت الأب فقال الحر: مات في شعبان وقال الآخر: مات في شوال فالقول قول المعتق لأن الأصل بقاء الحياة وكذلك إن مات مسلم وله ولدان مسلم وكافر فأسلم الكافر واختلفا في وقت إسلامه.
وإذا مات رجل فادعى إنسان أنه وارثه لم تسمع الدعوى حتى يبين سبب الإرث لجواز أن يعتقد أنه وارث بسبب لا يرث به ولا يقبل إلا ببينة تشهد أنه وارثه لا نعلم له وارثا سواه ويبين السبب كما يبين المدعى فيدفع إليه ميراثه لأن الظاهر عدم وارث فإن لم يقولا: لا وارث له سواه وكان للمشهود له فرض لا يمكن إسقاطه أعطي اليقين كالزوج يعطى ربعا عائلا والزوجة تعطى ربع تسع وكل واحد من الأبوين يعطى سدسا عائلا ولا يعطى من سوى هؤلاء شيئا لأنه يحتمل أن يكون محجوبا أو لا يعلم ماله بيقين كالولد فإن قالا: نشهد أن هذا ولد فلان ولا نعلم له ولدا سواه قبلت شهادتهما ويدفع إليه ربع وسدس إن كان ذكرا لأنه أقل ما يرث مع زوج وأبوين والخمسان إن كان أنثى لأنه أقل ما يرث مع زوج وأبوين وبنت ابن فإن كان الميت رجلا فأقل ما يرث الابن نصف وثلث ثمن والبنت النصف عائلا ويبعث الحاكم إلى البلدان التي دخلها الميت فيسأل عن أحواله ويستكشف فإن لم يظهر له وارث توقف مدة بحيث لو كان له وارث ظهر فإن لم يظهر له غيره دفع إليه كمال ميراثه لأن البحث مع هذه الشهادة ء كشهادة أهل الخبرة أنهم لا يعلمون وارثا سواه.
ولو مات رجل وخلف ابنا وزوجة ودارا فادعت الزوجة أنه أصدقها إياها وأنكر الابن فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الصداق فإن أقامت بينة بدعواها وأقام الابن بينة أن أباه تركها ميراثا قدمت بينة الزوجة لأنها تشهد بأمر حادث على الملك خفي على بينة الإرث وكذلك إن ادعت هي أو غيرها شراءها أو اتهابها فالحكم كذلك لما ذكرنا.
وإذا تنازع الزوجان في متاع البيت حال الزوجية أو بعد الفرقة أو تنازع ورثتهما بعد موتهما أو أحدهما وورثة الآخر ولا بينة لهما حكم بما يصلح للرجال من ثيابهم وعمائمهم وسلاحهم ونحو ذلك للرجل وما يصلح للنساء من ثيابهن ومقانعهن وحليهن ومغازلهن ونحو ذلك للمرأة وما يصلح لهما من الفرش والحصر والآنية ونحو ذلك فهو بينهما لأن الظاهر أن من يصلح له شيء فهو له فرجح قوله فيه كصاحب اليد قال القاضي: هذا إذا كانت أيديهما عليه من طريق الحكم بأن يكون في منزلهما فإذا كان في يد أجدهما المشاهدة فهو له وإن كان في أيديهما فهو بينهما لأن اليد المشاهدة أقوى فرجح بها.
وإن اختلف صانعان في دكان في الآلات التي فيه حكم بآلة كل صناعة لصاحبها لأن الظاهر معه وإن تنازعا في شيء خارج من الدكان لم يرجح دعوى أحدهما بصلاحية المدعى له لأنه إنما يصلح للترجيح مع اليد الحكمية ولا يكفي مع انفراده كما لو اختلف الزوجان في متاع خارج من البيت.
وإن تنازع رب الدار والمكتري في شيء في الدار المكتراة وكان مما يتبع الدار في البيع كالسلم المسمر والرف المسمر والخابية المنصوبة والمفاتيح فهو لرب الدار لأنه من توابعها فأشبه الشجرة المغروسة فيها فإن كان مما لا يتبعها كالفرش والأواني فهو للمكتري لأن يده عليه والعادة أن الإنسان يؤجر داره فارغة وإن تنازعا في رفوف موضوعة على أوتاد فعن أحمد: أنه لرب الدار لأن الظاهر أنه يترك الرفوف فيها فأشبه المتصلة وقال القاضي: يتحالفان ويكون بينهما لأن هذا الظاهر معارض بكون الرفوف لا تتبع الدار في البيع فاستويا وقال أبو الخطاب: إن كان لها. شكل منصوب في الدار فهو لصاحبها لأن أحدهما له فكان الآخر له وإن لم يكن لها شكل منصوب فهو للمكتري لأن يده عليه وهو مما لا يتبع الدار فأشبه الفرس. وإن اختلفا في مصرع باب مقلوع فالحكم فيه كالحكم في الرف إلا أن القاضي قال: إن كان له شكل في الدار فالقول قول رب الدار وإلا فالقول قول المكتري.
وإن اختلف رب الدار والخياط الذي فيها في الإبرة والمقص فهما للخياط لأن تصرفه فيهما أظهر وإن اختلفا في الثوب فهو لصاحب الدار لأن الظاهر أنه لا يحمل قميصه يخيطه في دار غيره وإن اختلف النجار ورب الدار فالقول قول النجار في القدوم والمنشار والقول قول رب الدار في الرفوف والخشب لما ذكرناه وإن تنازع رجلان دابة أحدهما راكبها أو له حمل عليها والآخر آخذ بزمامها فهي لراكبها لأن تصرفه فيها أقوى ويده آكد فإن كان لأحدهما عليها حمل والآخر راكبها فهي للراكب لأن يده عليها وعلى الحمل وإن اختلف صاحب الدابة وراكبها في حملها فهو لراكبها لأن يده على الدابة فتكون يده على حملها وإن تنازعا في رحل الدابة وسرجها فهو لصاحبها لأنه تابع للدابة والعادة جارية لأن ذلك يكون لصاحبها.
وإن تنازعا حائطا معقودا ببناء أحدهما عقدا لا يمكن إحداثه فالقول قوله فيه لأن الظاهر أنه بناه مع ملكه وإن كان له عليه أزج فهو له لأن الظاهر أنه لا يضع أزجه إلا على ملكه ولا يرجح أحدهما بوضع خشبه عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يمنع المرء جاره من وضع خشبه على حائطه وإن كان معقودا ببناء كل واحد منهما أو محلولا منهما أو لكل واحد منهما عليه أزج أو لا أزج لواحد منهما تحالفا وكان بينهما لأنهما استويا فيه مع ثبوت يديهما عليه فأشبه ما لو تنازعا دارا في يديهما وإن تنازع صاحب العلو والسفل السقف الذي بينهما فهو بينهما لأنه حاجز توسط بين ملكيهما أشبه الحائط بين الملكين وإن تنازعا درجة تحتها مسكن فهي بينهما لأنهما تساويا في الانتفاع بها وإن لم يكن تحتها مسكن أو تنازعا سلما منصوبا فهو لصاحب العلو لأنها وضعت لنفعه وإن كانت تحتها جب فهي لصاحب العلو لأن المقصود بها نفعه وإن تنازعا حائط العلو فهو لصاحبه لأنه مختص بنفعه وإن تنازعا حائط السفل احتمل أن يكون بينهما لأنه لنفعهما فهو كالسلم تحته مسكن واحتمل أن يكون لصاحب السفل لأنه لم تجر العادة ببيت لا حائط له وإن تنازعا صحن الدار والدرجة فيه فهو بينهما لأن لكل واحد منهما عليه يدا وإن لم يكن فيه درجة فهو لصاحب السفل ولهذا يملك منع صاحب العلو من الاستطراق فيه وإن تنازعا مسناة بين أرض أحدهما ونهر الآخر فهي بينهما لأنه حائط بين ملكيهما ينتفع به كل واحد منهما أشبه الحائط بين الدارين وإن تنازعا عمامة في يد أحدهما طرفها وباقيها في يد الآخر تحالفا وكانت بينهما لأن يد كل واحد منهما ثابتة عليها وإن كان أحدهما لابسها والآخر آخذ بطرفها أو تنازعا قميصا أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه لأن المنتفع به المتصرف فيه وإن تنازعا عبدا عليه ثياب لأحدهما فهما سواء لأن نفع الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحبه.
وإن كان في يده غلام بالغ عاقل فادعاه عبدا له فصدقه حكم له بملكه وإن كذبه فالقول قوله لأن الظاهر الحرية وإن كان طفلا لا يميز فهو للمدعي لأنه لا يعبر من نفسه أشبه البهيمة فإن بلغ فقال: إني حر لم يقبل منه لأنه حكم برقه قبل دعواه وإن لم يدع ملكه لكنه كان في يده يتصرف فيه فهو كما لو ادعى رقه لأن اليد دليل الملك فإن ادعى أجنبي نسبه ثبت ولم يزل ملك سيده لأنه يجوز أن يكون ولده وهو مملوك إلا أن يكون المدعي امرأة فتثبت حرية ولدها أو يكون رجلا عربيا فإن فيه روايتين: إحداهما: لا يسترق ولده فيحكم بحريته حينئذ وإن كان الصبي مميزا فأنكر رق نفسه ففيه وجهان: أحدهما: لا يثبت رقه لأنه معرب عن نفسه في دعوى الحرية فأشبه البالغ. والثاني: يثبت الملك عليه لأنه لا قول له فأشبه الطفل ولو ادعى رجلان رق كبير في أيديهما فأقر لأحدهما فهو لمن أقر له لأن رقه إنما يثبت بإقراره وإن جحدهما فالقول قوله فإن أقام كل واحد منهما بينة بملكه تعارفتا فإن قلنا بسقوطهما رجع إلى قوله وإن قلنا بقسمته بينهما أو بقرعته بينهما عمل على حسب ذلك.
ولو كان في يده صغيرة فادعى نكاحها لم تقبل دعواه ولا يخلى بينه وبينها إلا أن تكون بينة لأن النكاح لا يثبت إلا بعقد وشهادة بخلاف الرق فإذا كبرت واعترفت له بالنكاح قبل إقرارها والله أعلم.
ومن كان له حق على من يقر به ويبذله لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه لأن الخيرة إلى الغريم في تعيين ما يقضيه فإن أخذ من ماله شيئا بغير اختياره لزمه رده لأنه لا يجوز أن يتملك غير ماله بغير ضرورة فإن أتلفه صار دينا في ذمته فإن كان من جنس حقه تقاص الدينان وتساقطا وإن كان من غير جنسه صار دين كل واحد منهما فى ذمة الآخر وإن كان من عليه الدين مانعا له بجحد أو تعد فالمذهب أنه ليس له الأخذ أيضا لقول النبى صلى الله عليه وسلم [أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك] والأخذ من ماله بغير علمه خيانة ولأنه إن أخذ من غير جنس. حقه فهي معاوضة بغير تراض منهما فلا يجوز لقول الله تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} وإن أخذ من جنسه فليس له تعيين الحق بغير رضى صاحبه كحالة البذل قال ابن عقيل وجعل أصحابنا المحدثون لجواز الأخذ وجها وخرجه أبو الخطاب احتمالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند: [خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف] حين أخبرته أن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيها ما يكفيها ولقوله عليه السلام [الرهن محلوب ومركوب بنفقته]. فعلى هذا إن أخذ من جنس حقه أخذ قدره وإن أخذ من غير جنسه اجتهد في تقويمه كقولنا في المرتهن: يركب ويحلب بقدر العلف.
وإذا ادعى حقا على إنسان وأقام به شاهدين فلم يعرف الحاكم عدالتهما فسأل حبس غريمه حتى تثبت عدالة شهوده أجيب إليه لأن الظاهر عدالة المسلم ولأن الذي على الشاهد قد أتى به وإنما بقي ما على الحاكم وهو الكشف عن عدالة الشهود وإن أقام شاهدا واحدا في حق لا يثبت إلا بشاهدين وسأل حبس غريمه ليقيم آخر لم يحبس لأن الحبس عذاب فلا يتوجب قبل تمام البينة وإن كان الحق مما يثبت بشاهد واحد احتمل أن يحبس لأن الشاهد حجة فيه واليمين إنما هي مقوية واحتمل أن لا يحبس لأن الحجة ما تمت ويحتمل أنه إن كان المدعي باذلا لليمين ولم تثبت عدالة الشاهد حبس لأنها في معنى التي قبلها وإن كان التوقف عن الحكم لغير ذلك لم يحبس لأنه إن حبس ليقيم شاهدا آخر فهي كالتي لا تثبت إلا بشاهدين وإن حبس ليحلف الخصم فلا حاجة إلى الحبس مع إمكان اليمين في الحال وكل موضع حبس على تعديل الشهود استديم حبسه حتى تثبت عدالتهم أو فسقهم وإن حبس ليقيم شاهدا آخر حبس ثلاثا فإن أقام الخصم شاهدا وإلا خلي سبيله وإن ادعى العبد أن سيده أعتقه وأقام شاهدين فلم يعدلا فسأل الحاكم أن يحول بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن عدالة شهوده فعل ذلك ويؤخره الحاكم وينفق عليه من كسبه لما ذكرنا فيما تقدم.
ومن ادعى حقا من المال أو يقصد به المال كالبيع والإجارة فأنكر المدعى عليه فعليه اليمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه] رواه مسلم ورواه البخاري بمعناه. ولحديث الحضرمي والكندي فأما غير ذلك من الحقوق وهو ما لا يثبت إلا بشاهدين وهو القصاص والقذف والنكاح والطلاق والرجعة والنسب والاستيلاء والرق والعتق والولاء ففيه روايتان: إحداهما: لا يستحلف فيها لأن البدل لا يدخلها فلم يستحلف فيها كحقوق الله تعالى. والثانية: يستحلف في الطلاق والقصاص والقذف وذكر الخرقي: أنه يستحلف في مدة الإيلاء وتستحلف المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها قبل رجعه زوجها وذكر أبو الخطاب: أنه يستحلف في كل حق الآدمي لعموم الخبر وهو ظاهر في القصاص لقوله عليه السلام: [لادعى قوم دماء رجال وأموالهم] ولأنها دعوى صحيحة في حق آدمي فيستحلف عليه كدعوى المال فإذا توجهت اليمين عليه في المال فحلف برىء وإن نكل قضي عليه بعد أن يقول له الحاكم: إن حلفت وإلا قضيت عليك ثلاثا ولا ترد اليمين على المدعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال [: اليمين على المدعى عليه] فحصرها في جانبه. وادعى زيد بن ثابت على ابن عمر: أنه باعه عبدا يعلم عيبه عند عثمان رضي الله عنه فقال له: احلف أنك ما بعته وبه عيب علمته فأبى ابن عمر أن يحلف فرد عليه العبد ولم يرد اليمين. وقال أبو الخطاب: ترد اليمين على المدعي فيحلف ويحكم له بما ادعاه. وقال: قد صوبه أحمد وقال: ما هو ببعيد يحلف ويستحق لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم [رد اليمين على طالب الحق] رواه الدارقطني. ولا ترد إلا أن يردها المدعى عليه فإن نكل المدعي عن اليمين أيضا أخر الحكم حتى يحتكما في مجلس آخر فإن كانت الدعوى في غير المال فنكل المدعى عليه لم يقض بالنكول وهل يحبس حتى يقرأ ويحلف أم يخلى سبيله؟ على وجهين أصلهما إذا نكلت الزوجة عن اللعان وروي عن أحمد في القذف والقصاص فيما دون النفس: أنه يقضى فيه بالنكول إلا أن أبا بكر قال: هو قول قديم المذهب على خلافه.
واليمين المشروعة التي يبرأ بها المطلوب هى اليمين بالله تعالى لقوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله} وقال سبحانه: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} وقال تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لركانة بن عبد يزيد في الطلاق: [الله ما أردت إلا واحدة؟] قال: الله ما أردت إلا واحدة. وسواء كان الحالف مسلما أو كافرا عدلا أو فاسقا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي المدعي على الكندي: [ليس لك إلا يمينه] فقال الحضرمي: إنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه قال: ليس لك منه إلا ذلك. وقال الأشعث بن قيس: كان بني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: [هل لك بينة قلت لا قال لليهودى: احلف ثلاثا قلت: إذا يحلف فيذهب بمالي] فأنزل الله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} رواه أبو داود وأين حلف ومتى حلف أجزأ لظاهر ما روينا وحلف عمر رضي الله عنه في حكومة لأبي في النخل في مجلس زيد فلم ينكره أحد واختار الخرقي تغليظها في حق الكافر خاصة في المكان واللفظ فقال: واليمين التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله إلا أنه إن كان يهوديا قيل له: قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى وإن كان نصرانيا قيل له: قل: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها لما روى أبو هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يعني لليهود: [نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى] رواه أبو داود. وعلى هذا يحلف المجوسي: قل: والله الذي خلقني ورزقني ويحلف الوثني ومن لا يعبد الله بالله وحده واختار أبو الخطاب: أن الحاكم إن رأى تغليظها في حق المسلم والكافر في اللفظ والمكان والزمان فعل وتغليظها في حق المسلم باللفظ مثل قوله: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية. وفي الزمان أن يحلف بعد العصر لقوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصلاة} ويحلف بين الأذانين وفي المكان: أن يحلف بين الركن والمقام بمكة وعند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وعند الصخرة بالقدس وعند المنبر في سائر المساجد لما روى مالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [امن حلف على منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار] ولأنه ثبت التغليظ في أهل الذمه فنقيس عليهم غيرهم ولا تغلظ إلا فيما له خطر كالنصاب من المال والقصاص والطلاق والعتق ونحوه.
ويستحلف على حسب جوابه فإذا ادعى عليه قرضا أو بيعا فأجاب أنه: ما أقرضني ولا باعني حلف على ذلك وإن أجاب بأنه لا يستحق علي شيئا حلف عليه لأن اليمين شرعت لتحقيق جوابه وتأكيد صدقه فيما أخبر به فكانت على حسبه فإن ادعى ألفا فجوابه لا يستحق علي الألف ولا شيئا منها أو لا يستحق علي شيئا ويحلف كذلك ولا يكتفى منه بأنه لا يستحق علي الألف لأن ذلك لا ينفي استحقاقه بعضها وإن ادعى على معسر حقا هو عليه لم يجز له أن يحلف أنه لا يستحق علي شيئا لأنه كذب فإن الحق في ذمته.
ومتى كانت الدعوى على الخصم في نفسه حلف على البتات في النفي والإثبات لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف رجلا فقال: [قل: والله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء] رواه أبو داود ولأن له طريقا إلى العلم به فلزمه القطع بنفيه. فإن كانت الدعوى عليه في حق غيره في الإثبات حلف على البت لأن له طريقا إلى العلم به وفي النفي يحلف على نفي علمه نص عليه أحمد وذكر حديث القاسم ابن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون]. وفي حديث الحضرمي: ولكن أحلفه: والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه رواه أبو داود: ولأنه لا يمكنه الإحاطة بنفي فعل غيره فلم يدعي ذلك وذكر ابن أبي موسى عنه: أنه قال: على كل حال اليمين على العلم فيما يدعي عليه في نفسه أو فيما يدعي على ميته قال: وبالأول أقول قال: وعنه فيمن باع سلعة فظهر المشتري على عيب بها وأنكره البائع هل اليمين على علمه أو على البتات؟ على روايتين. وإن باع عبدا فأبق عند المشتري هل يحلف على علمه أو على أنه لم يأبق عنده على روايتين.
وإذا ادعى عليه جماعة حقا فأنكر لزمه لكل واحد يمين لأنه منكر لحق كل واحد منهم فإن قال: أنا أحلف للجميع يمينا واحدة لم يقبل منه وإن رضي الجماعة بيمين واحدة جاز لأن الحق لهم لا يخرج عنهم.
تحملها وأاؤها فرض لقول الله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}. وقوله سبحانه: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} ولأنها أمانة فيلزمه أداؤها عند طلبها كالوديعة وهي فرض كفاية إن لم يوجد من يكتفى به غير اثنين تعين عليهما لأن المقصود لا يحصل إلا بهما وإن قام بها من يكفي سقطت عمن سواهم لأن القصد حفظ الحقوق وقد حصل. ويستحب الإشهاد على العقود كلها لقول الله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} وقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}- يعني: في المداينة-. ولا يجب في عقد غير النكاح والرجعة لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتبايعون في عصره في الأسواق من غير إشهاد فلم ينكر عليهم ولأن في إيجابه حرجا فسقط بقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.
ومن كانت عنده شهادة لآدمي عالم بها لم يشهد حتى يسأله صاحبها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون ويشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون] متفق عليه. وإن لم يعلم بها استحب إعلامه بها وله أداؤها قبل إعلامه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ألا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها] رواه أبو داود فتعين حمل الحديث على هذه الصورة جمعا بين الخيرين. ومن كانت عنده شهادة في حد الله لم يستحب أداؤها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من ستر عورة مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة]. وتجوز الشهادة به لقول الله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} والله أعلم.
|